الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الظّنّ في اللّغة: مصدر ظنّ، من باب قتل وهو خلاف اليقين، وقد يستعمل بمعنى اليقين، كقوله تعالى: { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ} ومنه المَظِنّة بكسر الظّاء للمعلم وهو حيث يعلم الشّيء، والجمع المظانّ، قال ابن فارس مظنّة الشّيء موضعه ومألفه، والظّنّة بالكسر: التّهمة. والظّنّ في الاصطلاح - كما عرّفه الجرجانيّ - هو: الاعتقاد الرّاجح مع احتمال النّقيض، ويستعمل في اليقين والشّكّ، وقيل: الظّنّ أحد طرفي الشّكّ بصفة الرّجحان، وذكر صاحب الكلّيّات: أنّ الظّنّ من الأضداد، لأنّه يكون يقيناً ويكون شكّاً، كالرّجاء يكون أمناً وخوفاً، ثمّ ذكر أنّ الظّنّ عند الفقهاء من قبيل الشّكّ، لأنّهم يريدون به التّردّد بين وجود الشّيء وعدمه، سواء استويا أو ترجّح أحدهما. ومثله ما قاله ابن نجيم. ونقل أبو البقاء أنّ الزّركشيّ أورد ضابطين للفرق بين الظّنّ الوارد في القرآن بمعنى اليقين، والظّنّ الوارد فيه بمعنى الشّكّ: أحدهما: أنّه حيث وجد الظّنّ محموداً مثاباً عليه فهو اليقين، وحيث وجد مذموماً متوعّداً عليه بالعذاب فهو الشّكّ. الثّاني: أنّ كلّ ظنّ يتّصل به " أن " المخفّفة فهو شكّ نحو قوله تعالى: {بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً}. وكلّ ظنّ يتّصل به " إنّ " المشدّدة فهو يقين، كقوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ}.
أ - الشّكّ: 2 - الشّكّ في اللّغة: الارتياب. وفي الاصطلاح: هو التّردّد بين النّقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشّاكّ. والصّلة بين الظّنّ والشّكّ: أنّ الشّكّ ما استوى طرفاه، وهو الوقوف بين شيئين لا يميل القلب إلى أحدهما، فإذا ترجّح أحدهما ولم يطرح الآخر فهو ظنّ، فإذا طرحه فهو غالب الظّنّ وهو بمنزلة اليقين. ب - الوهم: 3 - الوهم في اللّغة: سبق القلب إلى الشّيء مع إرادة غيره. وفي الاصطلاح: هو إدراك الطّرف المرجوح، أي ما يقابل الظّنّ. ج - اليقين: 4 - اليقين في اللّغة: العلم الحاصل عن نظر واستدلال، ولهذا لا يسمّى علم اللّه يقيناً. وأمّا في الاصطلاح فهو: جزم القلب بوقوع الشّيء أو عدم وقوعه.
5 - الظّنّ على أضرب: محظور، ومأمور به، ومندوب إليه، ومباح. فأمّا المحظور: فمنه سوء الظّنّ باللّه تعالى، لأنّ حسن الظّنّ باللّه تعالى فرض وواجب مأمور به، وسوء الظّنّ به تعالى محظور منهيّ عنه، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث يقول: » لا يموتنّ أحدكم إلاّ وهو يحسن الظّنّ باللّه عزّ وجلّ «. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: » حسن الظّنّ من حسن العبادة «. ومن الظّنّ المحظور المنهيّ عنه سوء الظّنّ بالمسلمين الّذين ظاهرهم العدالة، فعن صفيّة رضي الله عنها قالت: » كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم معتكفاً، فأتيته أزوره ليلاً، فحدّثته ثمّ قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان سكنها في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فمرّ رجلان من الأنصار، فلمّا رأيا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: على رسلكما، إنّها صفيّة بنت حييّ، فقالا: سبحان اللّه يا رسول اللّه، قال: إنّ الشّيطان يجري من الإنسان مجرى الدّم، وإنّي خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءاً أو قال: شيئاً «. ثمّ إنّ كلّ ظنّ فيما له سبيل إلى معرفته ممّا تعبّد بعلمه فهو محظور، لأنّه لمّا كان متعبّداً بعلمه، ونصب له الدّليل عليه، فلم يتبع الدّليل وحصل على الظّنّ كان تاركاً للمأمور به. وأمّا ما لم ينصب له عليه دليل يوصله إلى العلم به، وقد تعبّد بتنفيذ الحكم فيه، فالاقتصار على غالب الظّنّ وإجراء الحكم عليه واجب، وذلك نحو ما تعبّدنا به من قبول شهادة العدول، وتحرّي القبلة، وتقويم المستهلكات وأروش الجنايات الّتي لم يرد بمقاديرها توقيف، فهذه وما كان من نظائرها قد تعبّدنا فيها بتنفيذ أحكام غالب الظّنّ. وأمّا الظّنّ المندوب إليه فهو: حسن الظّنّ بالأخ المسلم، وهو مندوب إليه مثاب عليه، وإنّما كان هذا الضّرب من الظّنّ مندوباً ولم يكن واجباً كما كان سوء الظّنّ محظوراً لوجود الواسطة بينهما، وهي احتمال أن لا يظنّ به شيئاً فكان مندوباً. وأمّا الظّنّ المباح فمنه: ظنّ الشّاكّ في الصّلاة، فإنّه مأمور بالتّحرّي والعمل على ما يغلب في ظنّه، فإن عمل بما غلب عليه ظنّه كان مباحاً، وإن عدل عنه إلى البناء على اليقين كان جائزاً. وذكر الرّمليّ من الشّافعيّة: أنّ الظّنّ ينقسم في الشّرع إلى واجب ومندوب وحرام ومباح، فالواجب حسن الظّنّ باللّه تعالى، والحرام سوء الظّنّ به تعالى، وبكلّ من ظاهره العدالة من المسلمين، والمباح الظّنّ بمن اشتهر بين المسلمين بمخالطة الرّيب والمجاهرة بالخبائث فلا يحرم ظنّ السّوء به، لأنّه قد دلّ على نفسه، كما أنّ من ستر على نفسه لم يظنّ النّاس به إلاّ خيراً، ومن دخل مدخل السّوء اتّهم، ومن هتك نفسه ظننّا به السّوء، ومن الظّنّ الجائز بإجماع المسلمين ما يظنّ الشّاهدان في التّقويم وأروش الجنايات، وما يحصل بخبر الواحد في الأحكام بالإجماع.
6 - ذكر القرطبيّ أنّ للظّنّ حالتين: حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الأدلّة فيجوز الحكم بها، وأكثر أحكام الشّريعة مبنيّة على غلبة الظّنّ، كالقياس وخبر الواحد، وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات. والحالة الثّانية أن يقع في النّفس شيء من غير دلالة، فلا يكون ذلك أولى من ضدّه، فهذا هو الشّكّ، فلا يجوز الحكم به، وهو المنهيّ عنه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ}، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: » إيّاكم والظّنّ، فإنّ الظّنّ أكذب الحديث «. وذكر النّوويّ والخطّابيّ أنّه ليس المراد ترك العمل بالظّنّ الّذي تناط به الأحكام غالباً، بل المراد تحقيق الظّنّ الّذي يضرّ بالمظنون به، وكذا ما يقع في القلب بغير دليل، وذلك أنّ أوائل الظّنون إنّما هي خواطر لا يمكن دفعها، وما لا يقدر عليه لا يكلّف به، ويؤيّده حديث: » إنّ اللّه تجاوز لأمّتي ما حدّثت به أنفسها «.
7 - من القواعد الفقهيّة أنّه: لا عبرة بالظّنّ البيّن خطؤه، ومعناها أنّ الظّنّ الّذي يظهر خطؤه لا أثر له ولا يعتدّ به. ومن الفروع الّتي تتخرّج على هذه القاعدة عند الشّافعيّة أنّ المكلّف لو ظنّ في الواجب الموسّع أنّه لا يعيش إلى آخر الوقت تضيّق عليه، فلو لم يفعله ثمّ عاش وفعله فأداء على الصّحيح. ومن فروعها عند الحنفيّة ما ذكروه في باب قضاء الفوائت من أنّ من لم يصلّ العشاء في وقتها، وظنّ أنّ وقت الفجر ضاق، فصلّى الفجر، ثمّ تبيّن أنّه كان في الوقت سعة بطل الفجر، فإذا بطل ينظر، فإن كان في الوقت سعة يصلّي العشاء ثمّ يعيد، فإن لم يكن فيه سعة يعيد الفجر فقط. ويستثنى من هذه القاعدة مسائل: منها: لو صلّى خلف من يظنّه متطهّراً، ثمّ بان أنّه كان محدثاً فصلاته صحيحة عملاً بظنّه. ومنها: ما لو رأى المتيمّم ركباً فظنّ أنّ معهم ماءً بطل تيمّمه وإن لم يكن معهم ماء، لتوجّه الطّلب عليه. وذكر الزّركشيّ في المنثور أنّ القادر على اليقين ليس له أن يأخذ بالظّنّ فيما يتعبّد فيه بالنّصّ قطعاً، كالمجتهد القادر على النّصّ لا يجتهد، وكذا إن كان بمكّة لا يجتهد في القبلة، وله أن يأخذ بالظّنّ فيما لم يتعبّد فيه بالنّصّ، كالاجتهاد بين الطّاهر والنّجس من الثّياب والأواني، مع القدرة على طاهر بيقين في الأصحّ، ولو اجتهد في دخول الوقت جازت الصّلاة مع تمكّنه من علمه في الأصحّ.
8 - ذهب جمهور الأصوليّين من غير الحنفيّة إلى أنّ التّعارض لا يقع بين دليلين قطعيّين اتّفاقاً، سواء كانا عقليّين أو نقليّين، وكذلك التّرجيح لا يجوز في الأدلّة اليقينيّة. وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يشترط في التّعارض تساوي الدّليلين قوّةً، ويثبت التّعارض في دليلين قطعيّين. وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ.
9 - ذكر الحنفيّة أنّه لو توضّأ بماء ظنّ نجاسته ثمّ تبيّن له بعد ذلك أنّه كان طاهراً جاز وضوءه. وذكر المالكيّة أنّه إذا تغيّر ماء البئر ونحوها، وتحقّق أو ظنّ أنّ الّذي غيّره ممّا يسلب الطّهوريّة والطّاهريّة لقربها من المراحيض ورخاوة أرضها فإنّه يضرّ، وإن تحقّق أو ظنّ أنّ مغيّره ممّا لا يسلب الطّهوريّة فالماء طهور. وذكر الشّافعيّة أنّ الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة، وشكّ هل هو قلّتان أم لا ؟ فالّذي جزم به صاحب الحاوي وآخرون أنّه نجس، لتحقّق النّجاسة، ولإمام الحرمين فيه احتمالان، والمختار بل الصّواب الجزم بطهارته، لأنّ الأصل طهارته وشككنا في نجاسة منجّسه – أي في تنجّس الماء الّذي وقعت فيه النّجاسة – ولا يلزم من النّجاسة التّنجيس. وذكر الحنابلة أنّ استعمال الماء الّذي ظنّ نجاسته مكروه، بخلاف ما شكّ في نجاسته فلا يكره. وتفصيل ذلك في مصطلح: (نجاسة).
10 - قال الحنفيّة: لو شكّ في دخول وقت العبادة فأتى بها، فبان أنّه فعلها في الوقت لم يجزه، ويكفي في ذلك أذان الواحد لو عدلاً، وإلاّ تحرّى، وبنى على غالب ظنّه. وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا تردّد المصلّي هل دخل وقت الصّلاة أو لا على حدّ سواء ؟ أو ظنّ دخوله ظنّاً غير قويّ، أو ظنّ عدم الدّخول وتوهّم الدّخول، سواء حصل له ما ذكر قبل الدّخول في الصّلاة أو طرأ له ذلك بعد الدّخول فيها فإنّ صلاته لا تجزيه، لتردّد النّيّة وعدم تيقّن براءة الذّمّة، سواء تبيّن بعد فراغ الصّلاة أنّها وقعت قبله أو وقعت فيه أو لم يتبيّن شيء، اللّهمّ إلاّ أن يكون ظنّه بدخول الوقت قويّاً، فإنّها تجزئ إذا تبيّن أنّها وقعت فيه، كما ذكر صاحب الإرشاد، وهو المعتمد. وذكر الشّافعيّة أنّ من اشتبه عليه وقت الصّلاة لغيم أو حبس في مظلم أو غيرهما اجتهد، مستدلاً بالدّرس والأعمال والأوراد وشبهها، وحيث لزم الاجتهاد فصلّى بلا اجتهاد وجبت الإعادة وإن صادف الوقت، وإذا لم تكن دلالة أو كانت فلم يغلب على ظنّه شيء صبر إلى أن يغلب على قلبه دخول الوقت، والاحتياط أن يؤخّر إلى أن يغلب على ظنّه أنّه لو أخّر خرج الوقت. وذكر الحنابلة أنّ من شكّ في دخول وقت الصّلاة لم يصلّ حتّى يغلب على ظنّه دخوله، لأنّ الأصل عدم دخوله، فإن صلّى مع الشّكّ فعليه الإعادة وإن وافق الوقت، لعدم صحّة صلاته، كما لو صلّى من اشتبهت عليه القبلة من غير اجتهاد. وأمّا الصّلاة على ظنّ بقاء الوقت فإنّها صحيحة نظراً للأصل، إذ الأصل بقاء الوقت.
11 - من اشتبهت عليه القبلة فإنّه يجتهد ويصلّي إلى الجهة الّتي يغلب على ظنّه أنّها القبلة، فإن تغيّر رأيه بعد الدّخول في الصّلاة إلى جهة أخرى فإنّه يتوجّه إليها، حتّى لو صلّى أربع ركعات إلى أربع جهات بالاجتهاد صحّت صلاته ولا إعادة عليه لأنّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، لما ورد: » أنّ أهل قباء كانوا متوجّهين إلى بيت المقدس في صلاة الفجر، فأخبروا بتحويل القبلة فاستداروا إلى القبلة، وأقرّهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك «. ويلزمه عند الحنفيّة في حال تغيّر ظنّه الاستدارة على الفور إلى الجهة الّتي يظنّ أنّها القبلة، فإن لم يفعل ومكث قدر ركن فسدت صلاته. وتبطل الصّلاة إن أدّاه اجتهاده إلى جهة وخالفها بصلاته لغيرها عامداً عند المالكيّة إن لم يصادف القبلة في الّتي صلّى إليها، بل وإن صادفها في الجهة الّتي صلّى إليها، فيعيدها أبداً، لدخوله على الفساد وتعمّده إيّاه. وذكر النّوويّ ثلاثة أحوال للمجتهد في جهة القبلة إذا ظهر له الخطأ في اجتهاده: أحدها: أن يظهر له الخطأ قبل الشّروع في الصّلاة، فإن تيقّن الخطأ في اجتهاده أعرض عنه واعتمد الجهة الّتي يعلمها أو يظنّها الآن، وإن لم يتيقّن، بل ظنّ أنّ الصّواب جهة أخرى، فإن كان دليل الاجتهاد الثّاني عنده أوضح من الأوّل الآن اعتمد الثّاني، وإن كان الأوّل أوضح اعتمده، وإن تساويا فله الخيار فيهما على الأصحّ، وقيل: يصلّي إلى الجهتين مرّتين. الثّاني: أن يظهر له الخطأ بعد الفراغ من الصّلاة، فإن تيقّنه وجبت الإعادة على الأظهر، سواء تيقّن الصّواب أيضاً أم لا، وقيل: القولان إذا تيقّن الخطأ وتيقّن الصّواب، أمّا إذا لم يتيقّن الصّواب فلا إعادة قطعاً، والمذهب الأوّل. وأمّا إذا لم يتيقّن الخطأ بل ظنّه فلا إعادة عليه، فلو صلّى أربع صلوات إلى أربع جهات باجتهادات فلا إعادة على الصّحيح، وعلى وجه شاذّ يجب إعادة الأربع، وقيل: يجب إعادة غير الأخيرة. الثّالث: أن يظهر له الخطأ في أثناء الصّلاة، وهو ضربان: الأوّل: أن يظهر الصّواب مقترناً بظهور الخطأ فإن كان الخطأ متيقّناً فيبني على القولين في تيقّن الخطأ بعد الفراغ من الصّلاة، وإن لم يكن متيقّناً بل مظنوناً فالأصحّ أنّه ينحرف ويبني حتّى لو صلّى أربع ركعات إلى أربع جهات فلا إعادة كالصّلوات، وخصّ ذلك بما إذا كان الدّليل الثّاني أوضح من الأوّل، فإن استويا تمّم صلاته إلى الجهة الأولى ولا إعادة. الضّرب الثّاني: أن لا يظهر الصّواب مع الخطأ فإن عجز عن الصّواب بالاجتهاد على القرب بطلت صلاته وإن قدر عليه على القرب، فهل ينحرف ويبني أم يستأنف ؟ فيه خلاف مرتّب على الضّرب الأوّل، والأولى الاستئناف، قال النّوويّ وهو الصّواب. وذكر الحنابلة أنّ من اشتبهت عليه القبلة فإن كان في قرية ففرضه التّوجّه إلى محاريبهم، فإن لم تكن لهم محاريب لزمه السّؤال عن القبلة، فإن كان جاهلاً بأدلّتها ففرضه الرّجوع إلى من يخبره عن يقين إن وجده، ولا يجتهد قياساً على الحاكم إذا وجد النّصّ، وإن كان الّذي وجده يخبره عن ظنّ ففرضه تقليده إن كان من أهل الاجتهاد وكان عالماً بأداتها وضاق الوقت وإلاّ لزمه التّعلّم والعمل باجتهاده. وإن اشتبهت عليه القبلة في السّفر - وكان عالماً بأداتها - ففرضه الاجتهاد في معرفتها لأنّ ما وجب اتّباعه عند وجوده وجب الاستدلال عليه عند خفائه كالحكم في الحادثة فإذا اجتهد وغلب على ظنّه جهة أنّها القبلة صلّى إليها لتعيّنها قبلةً له، إقامةً للظّنّ مقام اليقين لتعذّره، فإن تركها - أي الجهة الّتي غلبت على ظنّه - وصلّى إلى غيرها أعاد ما صلاه إلى غيرها وإن أصاب لأنّه ترك فرضه، كما لو ترك القبلة المتيقّنة، وإن تعذّر عليه الاجتهاد - لغيم ونحوه كما لو كان مطموراً أو كان به مانع من الاجتهاد كرمد ونحوه أو تعادلت عنده الأمارات - صلّى على حسب حاله بلا إعادة. وتفصيل ذلك في مصطلح: (استقبال ف 28، واشتباه ف 20).
12 - قال الحنفيّة: إذا اقتدى بإمام لا يدري أمسافر هو أم مقيم ؟ لا يصحّ، لأنّ العلم بحال الإمام شرط الأداء بجماعة. وذكر المالكيّة أنّه إذا دخل مصلّ على قوم ظنّ أنّهم مسافرون فظهر خلافه، أعاد أبداً إن كان الدّاخل مسافراً، لمخالفة إمامه نيّةً وفعلاً إن سلّم من اثنتين، وإن أتمّ فقد خالفه نيّةً، وفعل خلاف ما دخل عليه، وتبطل صلاته أيضاً إذا لم يظهر شيء، لحصول الشّكّ في الصّحّة وهو يوجب البطلان. أمّا إذا كان الدّاخل مقيماً فإنّه يتمّ صلاته، ولا يضرّه كونهم على خلاف ظنّه، لموافقته للإمام نيّةً وفعلاً كعكسه وهو أن يظنّهم مقيمين فينوي الإتمام فيظهر أنّهم مسافرون أو لم يتبيّن شيء فإنّه يعيد أبداً إن كان مسافراً، وهو ظاهر إن قصر لمخالفة فعله لنيّته، وأمّا إن أتمّ فكان مقتضى القياس الصّحّة كاقتداء مقيم بمسافر. وفرّق بأنّ المسافر لمّا دخل على الموافقة فتبيّن له المخالفة لم يغتفر له ذلك، بخلاف المقيم فإنّه داخل على المخالفة من أوّل الأمر فاغتفر له، وإن كان الدّاخل مقيماً صحّت ولا إعادة، لأنّه مقيم اقتدى بمسافر. وذكر الشّافعيّة أنّه لو اقتدى بمن ظنّه مسافراً فنوى القصر الّذي هو الظّاهر من حال المسافر أن ينويه فبان مقيماً أتمّ لتقصيره في ظنّه إذ شعار الإقامة ظاهر، أو اقتدى ناوياً القصر بمن جهل سفره - أي شكّ في أنّه مسافر أو مقيم أتمّ - وإن بان مسافراً قاصراً، لتقصيره في ذلك، لظهور شعار المسافر والمقيم، والأصل الإتمام، وقيل: يجوز له القصر إذا بان كما ذكر. وذكر الحنابلة أنّ من أحرم مع من يظنّه مقيماً أو شكّ فيه لزمه الإتمام وإن قصر إمامه اعتباراً بالنّيّة، وإن غلب على ظنّه أنّه مسافر لدليل فله أن ينوي القصر ويتبع إمامه، فيقصر بقصره ويتمّ بإتمامه، وإن أحدث إمامه قبل علمه بحاله فله القصر، لأنّ الظّاهر أنّه مسافر.
13 - لو رأى المسلمون سواداً فظنّوه عدوّاً فصلّوا صلاة الخوف، ثمّ تبيّن خلاف ذلك، فذهب الحنفيّة إلى أنّ اشتداد الخوف ليس شرطاً في أداء صلاة الخوف، بل الشّرط حضور عدوّ أو سبع فلو رأوا سواداً ظنّوه عدوّاً صلّوها، فإن تبيّن كما ظنّوا جازت لتبيّن سبب الرّخصة، وإن ظهر خلافه لم تجز إلاّ إن ظهر بعد أن انصرفت الطّائفة من نوبتها في الصّلاة قبل أن تتجاوز الصّفوف، فإنّ لهم أن يبنوا استحساناً، كمن انصرف على ظنّ الحدث يتوقّف الفساد إذا ظهر أنّه لم يحدث على مجاوزة الصّفوف. ويكفي عند المالكيّة في عدم الإعادة مجرّد الخوف، سواء أكان محقّقاً أم مظنوناً، وهو قول للشّافعيّة في مقابل الأظهر، لوجود الخوف عند الصّلاة، كسواد ظنّ برؤية أو بإخبار ثقة أنّه عدوّ فصلّوا صلاة التحام أو صلاة قسم ثمّ ظهر خلاف ذلك فلا إعادة، والظّنّ البيّن خطؤه لا عبرة به إذا أدّى إلى تعطيل حكم، لا إلى تغيّر كيفيّة، وهذا بخلاف المتيمّم الخائف من لصّ ونحوه ثمّ يظهر خلافه، فإنّه يعيد، لأنّه أخلّ بشرط. وذكر الشّافعيّة أنّهم لو صلّوا لسواد ظنّوه عدوّاً فبان بخلاف ظنّهم كإبل أو شجر قضوا في الأظهر، لتركهم فروضاً من الصّلاة بظنّهم الّذي تبيّن خطؤه، والثّاني: لا يجب القضاء لوجود الخوف عند الصّلاة وقد قال تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} وسواء في جريان القولين أكانوا في دار الحرب أم دار الإسلام، استند ظنّهم إلى إخبار أم لا، وقيل: إن كانوا في دار الإسلام أو لم يستند ظنّهم إلى إخبار وجب القضاء قطعاً. وذكر الحنابلة أنّ من رأى سواداً فظنّه عدوّاً فصلّى صلاة الخوف، ثمّ بان أنّه غير عدوّ، أو بينه وبينه ما يمنع العبور أعاد، لأنّه لم يوجد المبيح، فأشبه من ظنّ أنّه متطهّر فصلّى ثمّ علم بحدثه.
14 - يرى الفقهاء أنّ من تسحّر وهو يظنّ أنّ الفجر لم يطلع فإذا هو قد طلع، أو أفطر وهو يظنّ أنّ الشّمس قد غربت فإذا هي لم تغرب فإنّ صومه يبطل. وفي ذلك تفصيل ينظر في: (صوم).
15 - ذكر المالكيّة والشّافعيّة أنّ ظنّ السّارق في تعيين نوع ما سرقه لا يؤثّر في القطع، فلو سرق دنانير ظنّها فلوساً، أو سرق ثلاثة دراهم وهو يظنّها حين أخرجها من الحرز أنّها فلوس لا تساوي قيمتها النّصاب قطع ولا يعذر بظنّه. وعند الحنابلة الشّكّ في قيمة المسروق في كونه هل يبلغ نصاباً أو لا لا يوجب القطع.
16 - قال النّوويّ: لو أكره رجل رجلاً على أن يرمي إلى طلل علم الآمر أنّه إنسان، وظنّه المأمور حجراً أو صيداً، أو أكرهه على أن يرمي إلى سترة وراءها إنسان وعلمه الآمر دون المأمور، فلا قصاص على المأمور، ويجب القصاص على الآمر على الصّحيح، فإنّه آلة له، ووجه المنع أنّه شريك مخطئ، فإن آل الأمر إلى الدّية فوجهان: أحدهما تجب كلّها على الآمر واختاره البغويّ، والثّاني: عليه نصفها وعلى عاقلة المأمور، نصفها.
17 - من القواعد الفقهيّة أنّ ما ثبت بيقين لا يرتفع إلاّ بيقين، وقد استنبط الشّافعيّ هذه القاعدة من الحديث المرويّ عن عبّاد بن تميم عن عمّه: » أنّه شكا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الرّجل الّذي يخيّل إليه أنّه يجد الشّيء في الصّلاة فقال: لا ينفتل أو لا ينصرف حتّى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً «. ومن فروعها: أنّ من تيقّن طهارةً أو حدثاً وشكّ في ضدّه فإنّه يعمل بيقينه. ومنها: ما لو نسي صلاةً من الخمس وجب عليه الخمس، لاشتغال ذمّته بكلّ منها يقيناً. ومنها: أنّ الطّلاق لا يقع بالشّكّ، لأنّ النّكاح مستيقن، فإذا شكّ هل طلّق أم لا ؟ لم يقع شيء، وهل طلّق ثنتين أو واحدةً فواحدةً. ومنها: أنّ المفقود لا يقسم ماله ولا تنكح زوجته ما لم تمض مدّة يتيقّن أنّه لا يعيش أمثاله فيها، لأنّ بقاء الحياة متيقّن، فلا نرفعه إلاّ بيقين.
18 - إذا دفع الزّكاة لمن ظنّه من أهلها، فبان خطؤه: اختلف فيه على قولين: أحدهما: الإجزاء ولا تجب عليه الإعادة. والآخر: لا يجزئه، وفي الاسترداد قولان. يراجع مصطلح: (خطأ ف 11).
19 - لو وقف الحجيج العاشر من ذي الحجّة ظنّاً منهم أنّه التّاسع، ففي ذلك تفصيل ينظر في مصطلح: (خطأ ف 42).
1 - الظّهار بكسر الظّاء المعجمة لغةً: مأخوذ من الظّهر، لأنّ صورته الأصليّة أن يقول الرّجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمّي، وإنّما خصّوا الظّهر - دون البطن والفخذ وغيرهما- لأنّ الظّهر من الدّابّة موضع الرّكوب. وفي الاصطلاح هو تشبيه الرّجل زوجته، أو جزءاً شائعاً منها، أو جزءاً يعبّر به عنها بامرأة محرّمة عليه تحريماً مؤبّداً، أو بجزء منها يحرم عليه النّظر إليه، كالظّهر والبطن والفخذ. وفي فتح القدير إنّما خصّ باسم الظّهار تغليباً للظّهر، لأنّه كان الأصل في استعمالهم.
أ - الطّلاق: 2 - الطّلاق لغةً: حلّ القيد والإطلاق، وشرعاً: حلّ عقدة النّكاح بلفظ الطّلاق، ونحوه. وكان الظّهار طلاقاً في الجاهليّة فجاء الإسلام بأحكام خاصّة بكلّ منهما. ب - الإيلاء: 3 - الإيلاء لغةً: الحلف مطلقاً سواء أكان على ترك قربان الزّوجة أم على شيء آخر. وشرعاً: أن يحلف الزّوج باللّه تعالى أو بصفة من صفاته الّتي يحلف بها ألاّ يقرب زوجته أربعة أشهر أو أكثر. وكان الإيلاء طلاقاً في الجاهليّة، فغيّر الشّرع حكمه، وخصّه بأحكام غير أحكام الظّهار.
4 - كان النّاس قبل الإسلام إذا غضب الرّجل على زوجته لأمر من الأمور، ولم يرد أن تتزوّج بغيره آلى منها، أو قال لها: أنت عليّ كظهر أمّي، فتحرم عليه تحريماً مؤبّداً لا تحلّ له بحال، وتبقى كالمعلّقة، لا هي بالمتزوّجة ولا بالمطلّقة. واستمرّوا على ذلك في صدر الإسلام حتّى: » غضب أوس بن الصّامت رضي الله عنه على زوجته خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها فقال لها: أنت عليّ كظهر أمّي، فذهبت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما صنع زوجها، فقالت: إنّ أوساً تزوّجني وأنا شابّة مرغوب في، فلمّا كبرت سنّي ونثرت له بطني جعلني عليه كظهر أمّه، فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم: قد حرمت عليه فقالت: إنّ لي منه أولاداً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلاّ وقد حرمت عليه، فقالت: أشكو إلى اللّه فاقتي ووجدي. فنزل قول اللّه تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} «
5 - الظّهار محرّم، ولا يعتبر طلاقاً، وصرّح بعض الفقهاء بأنّه من الكبائر لكونه منكراً من القول وزوراً، لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}. ولحديث أوس بن الصّامت حين ظاهر من زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة فجاءت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم تشتكي فأنزل اللّه أوّل سورة المجادلة.
6 - الظّهار يصحّ أن يكون مؤبّداً، مثل أن يقول الرّجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمّي ولا يذكر مدّةً معيّنةً كأسبوع أو شهر أو سنة، ويصحّ أن يكون مؤقّتاً بمدّة معيّنة، مثل أن يقول الرّجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمّي شهراً، فإذا قال لها ذلك كان مظاهراً منها في تلك المدّة، فإذا عزم على قربانها فيها وجبت عليه الكفّارة، فإذا مضى الوقت زال الظّهار وحلّت المرأة بلا كفّارة، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأظهر. وذهب المالكيّة، وهو قول للشّافعيّة، وقول ابن عبّاس رضي الله عنهما، وعطاء وقتادة والثّوريّ وإسحاق وأبي ثور إلى أنّه لا يصحّ الظّهار إلاّ مؤبّداً، فإن ذكر الوقت فيه كان ذكره لغواً، فإذا قال الرّجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمّي هذا الشّهر كان الظّهار مؤبّداً، ولا يختصّ بذلك الشّهر الّذي عيّنه، وعلى هذا تحرم المرأة على زوجها في ذلك الشّهر وبعده، ولا تحلّ له حتّى يكفّر. وفي قول ثالث للشّافعيّة وابن أبي ليلى واللّيث: إنّ التّوقيت في الظّهار لا يعتبر ظهاراً. قد استدلّ الجمهور بما روي في حديث سلمة بن صخر: » أنّه ظاهر من امرأته حتّى ينسلخ شهر رمضان، وأنّه أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه أصابها في الشّهر فأمره بالكفّارة «، فإنّه يدلّ على أنّ الظّهار يصحّ أن يكون مؤقّتاً بالشّهر ونحوه، ولو كان الظّهار لا يصحّ إلاّ إذا كان مؤبّداً لبيّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الحكم، ولأنّ الظّهار شبيه باليمين من ناحية أنّ المنع من قربان الزّوجة ينتهي بالكفّارة في كلّ منهما، واليمين يصحّ فيه التّأبيد والتّوقيت، فيكون الظّهار مثله في هذا الحكم. واستدلّ المالكيّة ومن وافقهم بأنّ الظّهار يشبه الطّلاق من ناحية أنّ كلاً منهما يقتضي تحريم الزّوجة، والطّلاق لا يصحّ أن يكون مؤقّتاً، ولو أقّت بوقت كان التّوقيت لغواً، فكذلك الظّهار. واستدلّ من قال: إنّ التّأقيت في الظّهار لا يعتبر ظهاراً بأنّه لم يؤبّد التّحريم، فأشبه ما إذا شبّهها بامرأة لا تحرم على التّأبيد.
7 - ركن الظّهار - عند الحنفيّة - اللّفظ الدّالّ عليه، وهو التّعبير المشتمل على تشبيه الزّوجة بامرأة محرّمة على الزّوج تحريماً مؤبّداً كأنت عليّ كظهر أمّي أو ما يقوم مقامه، فالظّهار لا يقوم إلاّ بالتّعبير المنشئ له عندهم. وأركان الظّهار عند المالكيّة والشّافعيّة أربعة هي: أ - مشبِّه وهو الزّوج المظاهر. ب - مشبَّه وهو الزّوجة المظاهر منها. ج - مشبّه به وهو المحرّم بطريق الأصالة. د - الصّيغة.
يشترط في الظّهار ما يلي: 8 - أن يكون التّشبيه موجّهاً إلى الزّوجة كلّها أو إلى جزء منها، فإن كان التّشبيه موجّهاً إلى المرأة كلّها صحّ الظّهار باتّفاق الفقهاء، وصورته: أن يقول الرّجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمّي. أمّا إن كان التّشبيه موجّهاً إلى جزء من المرأة، فإن كان من الأجزاء الشّائعة كالنّصف والرّبع، أو كان من الأجزاء الّتي يعبّر بها عن الكلّ مجازاً فالظّهار يكون صحيحاً. وإن كان الجزء المشبّه لا يعبّر به عن الكلّ مجازاً مثل اليد والرّجل ونحوهما فلا يصحّ الظّهار عند الحنفيّة، وقال المالكيّة يصحّ الظّهار سواء كان ذلك الجزء المشبّه جزءاً حقيقةً كاليد والرّجل، أو كان جزءاً حكماً كالشّعر والرّيق والكلام. وقال الشّافعيّة في الجديد والحنابلة يصحّ الظّهار إذا كان الجزء المشبّه كاليد والرّجل، وأضاف الحنابلة أنّه لا يصحّ الظّهار إذا كان من الأجزاء المنفصلة غير الثّابتة كالدّمع والرّيق والكلام.
9 - أن يكون التّشبيه بامرأة محرّمة على الزّوج. والمرأة المحرّمة على الرّجل إمّا أن يكون تحريمها عليه مؤبّداً، وإمّا يكون مؤقّتاً. فإن شبّه الزّوج زوجته بامرأة محرّمة عليه على سبيل التّأبيد بلفظ يدلّ على الظّهار، بأن قال لها: أنت عليّ كظهر أمّي، فقد ذهب الفقهاء إلى أنّ ذلك ظهار. أمّا إذا شبّهها بمن تحرم عليه على سبيل التّأقيت، كأخت الزّوجة، فقد اختلف الفقهاء: فذهب الحنفيّة والشّافعيّة، ورواية عن أحمد: إلى أنّ تشبيه الزّوج زوجته بمن تحرم عليه على سبيل التّأقيت لغو وليس بظهار. وذهب المالكيّة إلى أنّه يكون كناية ظهار، إن نوى به ظهاراً وقع، وإلاّ فلا، وعند الحنابلة كما ذكر البهوتيّ، ورواية عن أحمد أوردها ابن قدامة أنّه يكون ظهاراً. 10 - وإذا شبّه الرّجل زوجته بعضو يحرم النّظر إليه من امرأة محرّمة عليه تحريماً مؤبّداً فإن كان هذا العضو هو ظهر الأمّ مثل أن يقول لها: أنت عليّ كظهر أمّي، فلا خلاف بين الفقهاء في صحّة الظّهار به، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنّ صريح الظّهار أن يقول: أنت عليّ كظهر أمّي، وفي حديث خولة امرأة أوس بن الصّامت أنّه قال لها: أنت عليّ كظهر أمّي، فذكر ذلك لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفّارة، ومثل الأمّ في هذا الجدّة، لأنّها أمّ أيضاً. وإن كان العضو المشبّه به " ظهر " غير الأمّ والجدّة، ممّن تحرم على الرّجل تحريماً مؤبّداً بنسب أو رضاع أو مصاهرة، كأخته وخالته وعمّته نسباً أو رضاعاً، وزوجة أبيه وابنه، فالظّهار يكون صحيحاً. أمّا إن كان العضو المشبّه به ليس هو الظّهر فالتّشبّه به يكون ظهاراً إذا كان من الأعضاء الّتي يحرم النّظر إليها مثل البطن والفخذ، فإن كان من الأعضاء الّتي يحلّ النّظر إليها كالرّأس والوجه واليد فلا يكون ظهاراً، وهذا عند الحنفيّة، وحجّتهم في ذلك: أنّ المشبّه به إذا كان يحلّ النّظر إليه لا يتحقّق بالتّشبيه به معنى الظّهار. وقال المالكيّة: التّشبيه بغير الظّهر يكون ظهاراً مطلقاً، سواء أكان المشبّه به جزءاً حقيقةً كالرّأس واليد والرّجل أم كان جزءاً حكماً كالشّعر والرّيق والدّمع والعرق، فلو قال الرّجل لزوجته: أنت عليّ كرأس أمّي أو كيدها أو رجلها، أو قال لها: أنت عليّ كشعر أمّي أو كريقها كان ظهاراً، لأنّ هذه الأجزاء وإن كان يحلّ النّظر إليها إلاّ أنّها لا يحلّ التّلذّذ أو الاستمتاع بها، والتّلذّذ أو الاستمتاع هو المستفاد بعقد الزّواج، فيكون التّشبيه بجزء منها ظهاراً، مثل التّشبيه بالظّهر والبطن والفخذ وغيرها ممّا لا يحلّ النّظر إليه. وقال الشّافعيّة: إذا شبّبها ببعض أجزاء الأمّ - غير الظّهر - فإن كان ممّا لا يذكر في معرض الكرامة والإعزاز، كاليد والرّجل والصّدر والبطن والفرج والشّعر، فقولان: أظهرهما - وهو الجديد - أنّه ظهار، وإن كان ممّا يذكر في معرض الإعزاز والإكرام، كقوله: أنت عليّ كعين أمّي، فإن أراد الكرامة فليس بظهار، وإن أراد الظّهار وقع ظهاراً قطعاً. وقال الحنابلة: إنّ التّشبيه بجزء غير الظّهر يكون ظهاراً متى كان من الأجزاء الثّابتة كاليد والرّجل والرّأس، أمّا لو كان من الأجزاء غير الثّابتة كالرّيق والعرق والدّمع والكلام أو كالشّعر والسّنّ والظّفر فلا يصحّ الظّهار إذا كان التّشبيه بواحد منها، لأنّها ليست من الأعضاء الثّابتة، ولا يقع الطّلاق إذا أضيف إلى شيء منها فكذلك الظّهار.
11 - أن يكون التّشبيه مشتملاً على معنى التّحريم. فإذا قال الرّجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمّي مثلاً، يقصد من ذلك تحريم إتيان زوجته كتحريم إتيان أمّه، أو تحريم التّلذّذ والاستمتاع بها كتحريم التّلذّذ بالأمّ والاستمتاع بها، فإنّ ذلك يكون ظهاراً. وإذا كان التّشبيه لا يشتمل على التّحريم لا يكون ظهاراً، وذلك كما إذا كان لرجل زوجتان، فشبّه إحداهما بظهر الأخرى، لأنّ كلاً من الزّوجتين يحلّ للزّوج قربانها، فلا يكون تشبيه واحدة منهما بالأخرى متضمّناً للتّحريم حتّى يكون ظهاراً. وكذا إذا قالت الزّوجة لزوجها: أنت عليّ كظهر أمّي، أو: أنا عليك كظهر أمّك فهو لغو، لأنّ التّحريم ليس إليها. 12 - وإن شبّه الرّجل زوجته بشيء محرّم من غير النّساء فقال الحنفيّة: لا يكون ظهاراً، كأن يقول لها: أنت عليّ كالخمر أو الخنزير أو الميتة، فإنّه لا يكون ظهاراً، ولكن يرجع فيه إلى نيّته وقصده، فإن قال: قصدت الطّلاق كان طلاقاً بائناً، وإن قال: قصدت التّحريم أو: لم أقصد شيئاً أصلاً كان إيلاءً. وقال المالكيّة: إن قال لزوجته: أنت عليّ ككلّ شيء حرّمه الكتاب تطلق عليه طلاقاً بائناً وهو مذهب ابن القاسم وابن نافع، وفي المدوّنة: قال ربيعة: من قال: أنت عليّ مثل كلّ شيء حرّمه الكتاب، فهو مظاهر، وعندهم يلزم الظّهار بأيّ كلام نوى به الظّهار، نحو: كلي، أو اشربي، أو اسقني، أو اخرجي. وقال الحنابلة: إن شبّه زوجته بشيء محرّم: كأن يقول: أنت عليّ كالميتة، أو الدّم ففيه روايتان عن أحمد: إحداهما أنّه ظهار، والرّواية الثّانية: أنّه ليس بظهار، وقال ابن قدامة: وهو قول أكثر العلماء، لأنّه تشبيه بما ليس بمحلّ للاستماع، فأشبه ما لو قال: أنت عليّ كمال زيد، وهل فيه كفّارة ؟ على روايتين: إحداهما: فيه كفّارة، لأنّه نوع تحريم، وإن لم يكن ظهاراً، فأشبه ما لو حرّم ماله، والثّانية: ليس فيه شيء وقال أبو الخطّاب: في قوله: أنت عليّ كالميتة والدّم: إن نوى به الطّلاق كان طلاقاً، وإن نوى الظّهار كان ظهاراً، وإن نوى يميناً كان يميناً، وإن لم ينو شيئاً ففيه روايتان: إحداهما: هو ظهار، والأخرى: هو يمين.
13 - أن تكون صيغة الظّهار دالّةً على إرادته: الظّهار الّذي تترتّب عليه أحكامه هو ما يكون بصيغة تدلّ على إرادة وقوعه. والصّيغة: إمّا أن تكون صريحةً أو كنايةً، وإمّا أن تكون تنجيزاً أو تعليقاً أو إضافةً. فصريح الظّهار عند الفقهاء ما دلّ على الظّهار دلالةً واضحةً ولا يحتمل شيئاً آخر سواه، ومثاله أن يقول الرّجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمّي، فالظّهار يفهم من هذا الكلام بوضوح، بحيث يسبق إلى أفهام السّامعين بدون احتياج إلى نيّة أو دلالة حال. وحكم الصّريح وقوع الظّهار به بدون توقّف على القصد والإرادة، فلو قال الرّجل هذه العبارة ولم يقصد الظّهار كان ظهاراً، ولو قال: إنّه نوى به غير الظّهار لا يصدّق قضاءً، ويصدّق ديانةً، لأنّه إذا نوى غير الظّهار فقد أراد صرف اللّفظ عمّا وضع له إلى غيره فلا ينصرف إليه، فإذا ادّعى إرادة غير الظّهار لا يسمع القاضي دعواه، لأنّها خلاف الظّاهر، ولكن يصدّق ديانةً أي: فيما بينه وبين اللّه تعالى، لأنّه نوى ما يحتمله كلامه. والكناية عند جمهور الفقهاء ما يحتمل الظّهار وغيره ولم يغلب استعماله في الظّهار عرفاً، ومثاله أن يقول الرّجل لزوجته: أنت عليّ كأمّي أو: مثل أمّي، فإنّه كناية في الظّهار، لأنّه يحتمل أنّها مثل أمّه في الكرامة والمنزلة، ويحتمل أنّها مثلها في التّحريم، فإن قصد أنّها مثلها في الكرامة والمنزلة فلا يكون ظهاراً ولا شيء عليه، وإن نوى به الطّلاق كان طلاقاً، وإن نوى به الظّهار كان ظهاراً، لأنّ اللّفظ يحتمل كلّ هذه الأمور، فأي واحد منها أراده كان صحيحاً وحمل اللّفظ عليه، وإن قال: لم أقصد شيئاً لا يكون ظهاراً، لأنّ هذا اللّفظ يستعمل في التّحريم وغيره فلا ينصرف إلى التّحريم إلاّ بنيّة. 14 - والظّهار تارةً يكون خالياً من الإضافة إلى زمن مستقبل، ومن التّعليق على حصول أمر في المستقبل، وتارةً يكون مشتملاً على التّعليق على حصول أمر في المستقبل أو الإضافة إلى زمن مستقبل، فإذا خلا التّعبير عن التّعليق والإضافة كان الظّهار منجّزاً، وإن اشتمل على الإضافة إلى زمن مستقبل كان مضافاً، وإن اشتمل على التّعليق كان معلّقاً. فالظّهار المنجّز هو: ما خلت صيغة إنشائه عن الإضافة إلى زمن مستقبل وعن التّعليق على حصول أمر في المستقبل مثل أن يقول الرّجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمّي، وهذا يعتبر ظهاراً في الحال، ويترتّب عليه أثره بمجرّد صدوره بدون توقّف على حصول شيء آخر. والظّهار المعلّق هو: ما رتّب حصوله على أمر في المستقبل بأداة من أدوات الشّرط المعروفة مثل " إن " " وإذا " " ولو " " ومتى " ونحوها. ومن أمثلة الظّهار المعلّق: أن يقول الرّجل: لزوجته: أنت عليّ كظهر أمّي إن سافرت إلى بلد أهلك. وفي هذه الحالة لا يعتبر ما صدر عن الرّجل ظهاراً قبل وجود الشّرط المعلّق عليه، لأنّ التّعليق يجعل وجود التّصرّف المعلّق مرتبطاً بوجود الشّرط المعلّق عليه، ففي المثال المتقدّم لا يكون الرّجل مظاهراً قبل أن تسافر زوجته إلى بلد أهلها، فإذا سافرت إلى ذلك البلد صار مظاهراً، ولزمه حكم الظّهار. وإذا علّق الظّهار بمشيئة اللّه تعالى بطل عند الحنفيّة والحنابلة، ووجه عند الحنابلة: أنّ الظّهار يمين مكفّرة، فصحّ فيها الاستثناء. وإذا علّقه بمشيئة فلان، أو بمشيئتها، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه يقع في التّعليق على المشيئة في المجلس. وذهب الحنابلة إلى عدم وقوع الظّهار إذا علّق على مشيئة فلان، وتقدّم توجيه قولهم. 15 - والظّهار المضاف هو: ما كانت صيغة إنشائه مقرونةً بوقت مستقبل يقصد الزّوج تحريم زوجته عند حلوله، وذلك مثل أن يقول الرّجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمّي بعد الشّهر القادم، وفي هذه الحالة يعتبر ما صدر عن الزّوج ظهاراً من وقت صدوره، ولكنّ الحكم لا يترتّب عليه إلاّ عند وجود الوقت الّذي أضيف الظّهار إليه، لأنّ الإضافة لا تمنع انعقاد التّصرّف سبباً لحكمه، ولكنّها تؤخّر حكمه، إلى الوقت الّذي أضيف إليه، ففي قول الرّجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمّي بعد الشّهر القادم يعتبر مظاهراً من الوقت الّذي صدرت فيه هذه الصّيغة، ولهذا لو كان الرّجل قد حلف باللّه تعالى: ألاّ يظاهر من زوجته، وقال لها هذه العبارة السّابقة حكم بحنثه في اليمين، ووجبت عليه كفّارة يمين بمجرّد صدور الصّيغة المضافة، ولكن لا يحرم عليه معاشرة زوجته إلاّ عند حلول الزّمن الّذي أضاف الظّهار إليه، وهذا عند جمهور الفقهاء. ووجهه: أنّ الظّهار مثل الطّلاق في تحريم المرأة على زوجها، والطّلاق يصحّ أن يكون مضافاً ومعلّقاً، فكذلك الظّهار. ويرى المالكيّة أنّ الظّهار إذا كان مضافاً إلى زمن مستقبل، أو كان معلّقاً على حصول أمر في المستقبل، وكان المعلّق عليه محقّق الحصول أو غالب الحصول في المستقبل، فإنّه يكون منجّزاً ويترتّب عليه حكمه في الحال، فإذا قال الرّجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمّي بعد سنة، أو قال لها: أنت عليّ كظهر أمّي إن جاء شهر رمضان أو هبّت الرّيح، كان مظاهراً في الحال، وحرمت عليه زوجته بمجرّد صدور الصّيغة، لأنّ الظّهار كالطّلاق كلاهما يترتّب عليه تحريم الزّوجة، والطّلاق المضاف أو المعلّق على أمر محقّق الوقوع في المستقبل، أو غالب الوقوع فيه، يكون منجّزاً، فكذلك الظّهار.
16 - أن يكون المظاهر قاصداً الظّهار. ويتحقّق هذا الشّرط بإرادة الزّوج النّطق بالعبارة الدّالّة على الظّهار أو ما يقوم مقامها، فإذا كان مع هذه الإرادة رغبة في الظّهار كان الظّهار صادراً عن رضىً صحيح، وإن وجدت الإرادة وحدها، وانتفت الرّغبة في الظّهار لم يتحقّق الرّضا، وذلك كأن يكون الزّوج مكرهاً على الظّهار بتهديده بالقتل أو الضّرب الشّديد أو الحبس المديد، فيصدر الظّهار عنه خوفاً من وقوع ما هدّد به لو امتنع، فإنّ صدور الصّيغة من الزّوج في هذه الحالة يكون عن قصد لكنّه ليس عن رضىً صحيح. والظّهار في هذه الحالة - حالة الإكراه - يكون معتبراً عند الحنفيّة تترتّب عليه آثاره، لأنّ الظّهار من التّصرّفات الّتي تصحّ مع الإكراه كالطّلاق، واستدلّوا على ذلك بقياس المكره على الهازل، لأنّ كلاً منهما تصدر عنه صيغة التّصرّف عن قصد واختيار، لكنّه لا يريد الحكم الّذي يترتّب عليه. وظهار الهازل معتبر كطلاقه، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » ثلاث جدّهنّ جدّ، وهزلهنّ جدّ: النّكاح، والطّلاق، والرّجعة « فيكون ظهار المكره معتبراً بالقياس على الهازل. وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة: لا يصحّ ظهار المكره واستدلّوا على ذلك بما روي عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: » إنّ اللّه وضع عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه «. 17 - وإذا صدرت صيغة الظّهار من الزّوج، لكنّه لم يرد موجبها، بل أراد اللّهو واللّعب - وهذا هو الهازل - فإنّ الظّهار يكون معتبراً عند الفقهاء. وذلك لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ: النّكاح والطّلاق والرّجعة « والظّهار كالطّلاق فيكون حكمه حكمه، ولأنّ الهازل يصدر عنه السّبب - وهو الصّيغة - وهو قاصد مختار، إلاّ أنّه لا يريد الحكم الّذي يترتّب عليه، وترتيب الأحكام على أسبابها موكول إلى الشّارع لا إلى العاقد. 18 - ولو أراد الزّوج أن يتكلّم بغير الظّهار، فجرى على لسانه الظّهار من غير قصد أصلاً - وهذا هو المخطئ - فلا يعتبر ظهاراً ديانةً، ويعتبر ظهاراً قضاءً، ومعنى اعتباره في القضاء دون الدّيانة أنّه إذا لم يعلم بالظّهار إلاّ الزّوج كان له أن يستمرّ في معاشرة زوجته بدون حرج ولا كفّارة عليه في ذلك، وإذا سأل فقيهاً عمّا صدر منه جاز له أن يفتيه بألاّ شيء عليه، متى علم صدقه فيما يقول، فإذا تنازع الزّوجان، ورفع الأمر إلى القاضي حكم بتحريم المرأة على الرّجل حتّى يكفّر، لأنّ القاضي يبني أحكامه على الظّاهر، واللّه يتولّى السّرائر، ولو قبل في القضاء دعوى أنّ ما جرى على لسانه لم يكن مقصوداً، وإنّما المقصود شيء آخر لانفتح الباب أمام المحتالين الّذين يقصدون النّطق بالصّيغة الدّالّة على الظّهار، ثمّ يدّعون أنّه كان سبق لسان، وهذا مذهب الحنفيّة. ومذهب المالكيّة والشّافعيّة - كما يؤخذ ممّا نصّوا عليه في الطّلاق - إذا ثبت أنّ الزّوج لم يقصد النّطق بصيغة الظّهار، بل قصد التّكلّم بشيء آخر، فزلّ لسانه وتكلّم بالصّيغة الدّالّة على الظّهار لا يكون ظهاراً في القضاء، كما لا يكون ظهاراً في الدّيانة والفتوى. ويتّضح ممّا تقدّم الفرق بين الإكراه والهزل والخطأ، وهو أنّه في الإكراه تكون العبارة صادرةً عن قصد واختيار، ولكنّه اختيار غير سليم لوجود الإكراه، وهو يؤثّر في الإرادة ويجعلها لا تختار ما ترغب فيه وترتاح إليه، بل تختار ما يدفع الأذى والضّرر. وفي الهزل تكون العبارة مقصودةً، لأنّها تصدر برضا الزّوج واختياره، ولكنّ حكمها لا يكون مقصوداً، لأنّ الزّوج لا يريد هذا الحكم، بل يريد شيئاً آخر هو اللّهو واللّعب. وفي الخطأ لا تكون العبارة الّتي نطق بها الزّوج مقصودةً أصلاً، بل المقصود عبارة أخرى وصدرت هذه بدلاً عنها.
19 - قيام الزّوجيّة بينهما حقيقةً أو حكماً. قيام الزّواج حقيقةً يتحقّق بعقد الزّواج الصّحيح بين الرّجل والمرأة وعدم حصول الفرقة بينهما من غير توقّف على الدّخول، فإذا تزوّج رجل امرأةً زواجاً صحيحاً، ثمّ ظاهر منها كان الظّهار صحيحاً، دخل بها قبل الظّهار أو لم يدخل، وهذا عند جمهور الفقهاء. وحجّة الجمهور على عدم اشتراط الدّخول: قول اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ} فإنّه يدلّ دلالةً واضحةً على أنّ الشّرط في الظّهار: أن تكون المرأة المظاهر منها من نساء الرّجل، والمرأة تعتبر من نساء الرّجل بالعقد الصّحيح، دخل بها أو لم يدخل. وقيام الزّواج حكماً يتحقّق بوجود العدّة من الطّلاق الرّجعيّ، فإذا طلّق الرّجل زوجته طلاقاً رجعيّاً كان الزّواج بعده قائماً طوال مدّة العدّة، لأنّ الطّلاق الرّجعيّ لا يزيل رابطة الزّوجيّة إلاّ بعد انقضاء العدّة، فالمطلّقة طلاقاً رجعيّاً تكون محلاً للظّهار، كما تكون محلاً للطّلاق ما دامت في العدّة. وعلى هذا لو قال الرّجل لامرأة ليست زوجته ولا معتدّةً له من طلاق رجعيّ: أنت عليّ كظهر أمّي لا يكون ظهاراً، حتّى لو تزوّجها بعد ذلك حلّ له وطؤها، ولا يلزمه شيء وهذا هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء. ووجهه: أنّ اللّه تعالى قال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ} وهو يفيد أنّ الظّهار إنّما يكون من نساء الرّجل، والأجنبيّة أو المعتدّة من طلاق غير رجعيّ لا تعتبر من نسائه، فلا يكون الظّهار منها صحيحاً. وقال الحنابلة: إذا قال الرّجل لامرأة أجنبيّة: أنت عليّ كظهر أمّي كان ظهاراً، فلو تزوّجها لا يحلّ له وطؤها حتّى يأتي بالكفّارة، ووجهه: أنّ الظّهار يمين تنتهي بالكفّارة، فصحّ انعقاده قبل النّكاح كاليمين باللّه تعالى. 20 - وإذا علّق الظّهار من الأجنبيّة على الزّواج بها، مثل أن يقول رجل لامرأة أجنبيّة: أنت عليّ كظهر أمّي إن تزوّجتك، فقد اختلف الفقهاء في انعقاده: فقال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة: إنّه ينعقد، وعلى هذا لو تزوّج الرّجل المرأة الّتي علّق الظّهار منها على الزّواج بها كان مظاهراً، فلا تحلّ له حتّى يكفّر، وحجّتهم في ذلك ما رواه أحمد بإسناده عن عمر بن الخطّاب أنّه قال في رجل قال: إن تزوّجت فلانة فهي عليّ كظهر أمّي فتزوّجها، قال: عليه كفّارة الظّهار. ولأنّ المعلّق بالشّرط كالمنجّز عند وجود الشّرط، والمرأة عند وجود الشّرط زوجة، فتكون محلاً للظّهار كما تكون محلاً للطّلاق. وقال الشّافعيّة: الظّهار المعلّق على الزّواج لا ينعقد، وتأسيساً على هذا: لو تزوّج الرّجل المرأة الّتي علّق الظّهار منها على الزّواج بها لا يكون مظاهراً، فيحلّ له قربانها، ولا يلزمه شيء، وحجّتهم في ذلك: أوّلاً: قول اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ} فهو سبحانه إنّما جعل الظّهار من نساء الرّجل، والمرأة الّتي يعلّق الظّهار منها على الزّواج بها لا تعتبر من نساء الرّجل عند إنشاء الظّهار، فلا يكون الظّهار منها صحيحاً. ثانياً: قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك « م فإنّه يدلّ على بطلان الطّلاق قبل الزّواج على سبيل العموم، فيشمل كلّ طلاق قبل الزّواج سواء كان منجّزاً أو معلّقاً، والظّهار مثل الطّلاق كلاهما يفيد تحريم الزّوجة، فلا يصحّ قبل الزّواج منجّزاً كان أو معلّقاً، اعتباراً بالطّلاق.
21 - التّكليف: يشترط في الرّجل لكي يكون ظهاره صحيحاً أن يكون مكلّفاً، وذلك يتحقّق بأمور: أ - البلوغ: فلا يصحّ الظّهار من الصّبيّ ولو كان مميّزاً، لأنّ حكم الظّهار التّحريم، وخطاب التّحريم مرفوع عن الصّبيّ حتّى يبلغ، يدلّ على ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتّى يبرأ، وعن النّائم حتّى يستيقظ، وعن الصّبيّ حتّى يعقل «. ويترتّب على الظّهار تحريم الزّوجة، فهو كالطّلاق من هذه النّاحية، وطلاق الصّبيّ لا يعتبر، فكذلك ظهاره لا يعتبر. ب - العقل: فلا يصحّ الظّهار من المجنون حال جنونه، ولا من الصّبيّ الّذي لا يعقل، لأنّ العقل أداة التّفكير ومناط التّكليف وهو غير متحقّق في المجنون والصّبيّ غير العاقل. ومثل المجنون في الحكم: المعتوه والمبرسم والمدهوش والمغمى عليه والنّائم. وأمّا السّكران فقد اتّفق الفقهاء على أنّ ظهاره لا يعتبر إن كان سكره من طريق غير محرّم، وذلك كما إذا شرب المسكر للضّرورة أو تحت ضغط الإكراه، لأنّ السّكران لا وعي عنده، ولا إدراك فهو كالمجنون أو كالنّائم، فكما لا يعتبر الظّهار الصّادر من المجنون والنّائم فكذلك لا يعتبر الظّهار الصّادر من السّكران في هذه الحالة. أمّا إذا كان سكره من طريق محرّم، بأن شرب المسكر باختياره من غير حاجة أو ضرورة حتّى سكر، فقد اختلف الفقهاء في اعتبار ظهاره بناءً على اختلافهم في اعتبار طلاقه، فمن قال منهم باعتبار طلاقه قال باعتبار ظهاره، وهم أكثر الحنفيّة، ومالك، والشّافعيّ وأحمد في رواية. ووجهه: أنّه لمّا تناول المحرّم باختياره كان متسبّباً في زوال عقله، فيجعل عقله موجوداً حكماً عقوبةً له وزجراً عن ارتكاب المعصية. ومن قال من الفقهاء بعدم اعتبار طلاق السّكران قال لا يعتبر ظهاره، وهم زفر من الحنفيّة وأحمد في رواية، وهو منقول عن عثمان بن عفّان وعمر بن عبد العزيز، وحجّتهم في ذلك أنّ صحّة التّصرّف تعتمد على القصد والإرادة الصّحيحة، والسّكران قد غلب السّكر على عقله فلا يكون عنده قصد ولا إرادة صحيحة، فلا يعتدّ بالعبارة الصّادرة منه، كما لا يعتدّ بالعبارة الصّادرة من المجنون والنّائم والمغمى عليه. ج - الإسلام: فلو كان الزّوج غير مسلم لا يصحّ ظهاره سواء كان كتابيّاً أم غير كتابيّ. وهذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة وروايةً عن أحمد. وقال الشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة: إسلام الزّوج ليس بشرط في صحّة الظّهار، فيصحّ الظّهار من المسلم وغير المسلم. وحجّة الحنفيّة والمالكيّة قول اللّه تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم} فإنّ الخطاب فيه للمسلمين، فيدلّ على أنّ الظّهار مخصوص بهم دون غيرهم من الكافرين. والأزواج المذكورون في الآية التّالية لهذه الآية وهي: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم} لا يراد بهم المسلمون وغير المسلمين بل المراد بهم الأزواج المذكورون في الآية السّابقة، لأنّ هذه الآية إنّما جاءت لبيان حكم الظّهار المذكور في الآية الّتي قبلها، وهو الظّهار الّذي يكون من المسلمين لا من غيرهم. وأيضاً فإنّ الظّهار يقتضي تحريم الزّوجة تحريماً ينتهي بالكفّارة، والكافر ليس أهلاً للكفّارة، لأنّها عبادة، والكافر لا تصحّ العبادة منه. وحجّة الشّافعيّة والحنابلة: قول اللّه تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم} فإنّه عامّ، فيشمل المسلمين وغير المسلمين، وتوجيه الخطاب للمسلمين في الآية السّابقة لا يدلّ على أنّ الظّهار مخصوص بهم، لأنّ المسلمين هم الأصل في التّكاليف الشّرعيّة، وغيرهم تابع لهم في ذلك، ولا يثبت التّخصيص إلاّ بدليل يدلّ عليه، ولا يوجد هذا الدّليل هنا. والكافر يصحّ منه بعض أنواع الكفّارة وهو العتق والإطعام، وإن كان لا يصحّ منه الصّيام، وامتناع صحّة بعض الأنواع من الكافر لا يجعله غير أهل للظّهار، قياساً على الرّقيق، فإنّه أهل للظّهار مع أنّه يمتنع منه الإعتاق.
إذا تحقّق الظّهار وتوافرت شروطه ترتّب عليه الآثار الآتية: 22 - أ - حرمة المعاشرة الزّوجيّة قبل التّكفير عن الظّهار، وهذه الحرمة تشمل حرمة الوطء ودواعيه من تقبيل أو لمس أو مباشرة فيما دون الفرج. أمّا حرمة الوطء قبل التّكفير فلا خلاف فيها بين الفقهاء، وذلك لاتّفاقهم، على إرادة الوطء في قول اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}. ولما روي: » أنّ رجلاً ظاهر من امرأته ثمّ واقعها قبل أن يكفّر، فسأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: استغفر اللّه ولا تعد حتّى تكفّر « أمره بالاستغفار من الوقاع، وهو إنّما يكون من الذّنب، فدلّ هذا على حرمة الوطء قبل التّكفير، كما أنّه صلى الله عليه وسلم نهاه عن العود إلى الوقاع حتّى يكفّر، ومطلق النّهي يدلّ على تحريم المنهيّ عنه، فيكون دليلاً على حرمة الوقاع قبل التّكفير، وكذلك يحرم عليها تمكينه من نفسها قبل ذلك. وأمّا حرمة دواعي الوطء فهو مذهب الحنفيّة وأكثر المالكيّة وإحدى الرّوايتين عن الإمام أحمد، وذلك لقول اللّه تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} فإنّه أمر المظاهر بالكفّارة قبل " التّماسّ " والتّماسّ يصدق على المسّ باليد وغيرها من أجزاء الجسم، كما يصدق على الوطء، والوطء قبل التّكفير حرام بالاتّفاق، فالمسّ باليد وما في معناه يكون حراماً مثله، ولأنّ المسّ والتّقبيل بشهوة والمباشرة فيما دون الفرج تدعو إلى الوطء، ومتى كان الوطء حراماً كانت الدّواعي إليه حراماً أيضاً، بناءً على القاعدة الفقهيّة: " ما أدّى إلى الحرام حرام ". وذهب الشّافعيّة في الأظهر وبعض المالكيّة وأحمد في رواية إلى إباحة الدّواعي في الوطء، ووجه ذلك: أنّ المراد من المسّ في قول اللّه تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} الجماع، وذلك كما في قول اللّه تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} فلا يحرم ما عداه من التّقبيل والمسّ بشهوة والمباشرة فيما دون الفرج، ولأنّ تحريم الوطء بالظّهار يشبه تحريم الوطء بالحيض، من ناحية أنّ كلاً منهما وطء محرّم ولا يخلّ بالنّكاح، وتحريم الوطء في الحيض لا يقتضي تحريم الدّواعي إليه، فكذلك تحريم الوطء بالظّهار لا يقتضي تحريم الدّواعي إليه بالقياس عليه. ولو وطئ المظاهر المرأة الّتي ظاهر منها قبل التّكفير أو استمتع بها بغير الوطء عصى ربّه، لمخالفة أمره الوارد في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} ولا يلزمه إلاّ كفّارة واحدة، وتبقى زوجته حراماً عليه كما كانت حتّى يكفّر، وهذا قول جمهور الفقهاء، ووجهه ما روي عن عكرمة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: » أنّ رجلاً أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد ظاهر من امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسول اللّه إنّي قد ظاهرت من زوجتي فوقعت عليها قبل أن أكفّر، فقال: وما حملك على ذلك يرحمك اللّه ؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: فلا تقربها حتّى تفعل ما أمرك اللّه به «. فالحديث واضح الدّلالة على أنّ المظاهر إذا وطئ قبل أن يكفّر لزمته الكفّارة ولا تسقط عنه بالوطء قبل التّكفير، وأنّ زوجته تبقى حراماً كما كانت حتّى يكفّر. 23 - ب - إنّ للمرأة الحقّ في مطالبة الزّوج بالوطء، وعليها أن تمنع الزّوج من الوطء حتّى يكفّر، فإن امتنع عن التّكفير كان لها أن ترفع الأمر إلى القاضي، وعلى القاضي أن يأمره بالتّكفير، فإن امتنع أجبره بما يملك من وسائل التّأديب حتّى يكفّر أو يطلّق، وهذا عند الحنفيّة، ووجهه: أنّ الزّوج قد أضرّ بزوجته بتحريمها عليه بالظّهار، حيث منعها حقّها في الوطء مع قيام الزّواج بينهما، فكان للزّوجة المطالبة بإيفاء حقّها ودفع الضّرر عنها، والزّوج في وسعه إيفاء حقّ الزّوجة بإزالة الحرمة بالكفّارة، فيكون ملزماً بذلك شرعاً، فإذا امتنع من القيام بذلك أجبره القاضي على التّكفير أو الطّلاق. وقال المالكيّة: إذا عجز المظاهر عن الكفّارة كان لزوجته أن تطلب من القاضي الطّلاق، لتضرّرها من ترك الوطء، وعلى القاضي أن يأمر الزّوج بالطّلاق، فإن امتنع طلّق القاضي عليه في الحال، وكان الطّلاق رجعيّاً، فإن قدر الزّوج على الكفّارة قبل انقضاء العدّة كفّر وراجعها. وإذا كان المظاهر قادراً على الكفّارة وامتنع عن التّكفير، فللزّوجة طلب الطّلاق، فإن طلبت الطّلاق من القاضي لا يطلّقها إلاّ إذا مضت أربعة أشهر كما في الإيلاء، فإن مضت الأربعة أشهر أمر القاضي الزّوج بالطّلاق أو التّكفير، فإن امتنع طلّق القاضي عليه، وكان الطّلاق رجعيّاً. وتأجيل الطّلاق إلى مضيّ الأربعة أشهر لا خلاف فيه، ولكنّ الخلاف في ابتداء هذه الأربعة، ففي قول تبدأ من يوم الظّهار، وعليه اقتصر أبو سعيد البراذعيّ في اختصاره للأقوال بالمدوّنة، وفي قول تبدأ من يوم الحكم وهو لمالك أيضاً والأرجح عند ابن يونس، وفي قول ثالث: تبدأ من وقت تبيّن الضّرر، وهو يوم الامتناع من التّكفير وعليه تؤوّلت المدوّنة. 24 - ج - وجوب الكفّارة على المظاهر قبل وطء المظاهر منها ودواعي الوطء، وذلك لأنّ اللّه تعالى أمر المظاهرين بالكفّارة إذا عزموا على معاشرة زوجاتهم اللاتي ظاهروا منهنّ في قوله جلّ شأنه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} والأمر يدلّ على وجوب المأمور به، ولأنّ الظّهار معصية لما فيه من المنكر والزّور، فأوجب اللّه الكفّارة على المظاهر حتّى يغطّي ثوابها وزر هذه المعصية. والكلام عن كفّارة الظّهار يتناول الأمور الآتية:
26 - اختلف الفقهاء في سبب وجوب الكفّارة، فقال بعض الحنفيّة والحنابلة: سبب وجوبها الظّهار. وقال بعض الحنفيّة والحنابلة: إنّها تجب بالظّهار، والعود شرط لتقرير وجوب الكفّارة، ووجه أنّ السّبب يتكرّر الحكم بتكرّره، والكفّارة تكرّر بتكرّر الظّهار، فدلّ هذا على أنّ الظّهار هو سبب وجوب الكفّارة. وقال بعض الفقهاء: سبب وجوب الكفّارة هو العزم على وطء المظاهر منها، وإلى هذا ذهب المالكيّة، وبعض الحنفيّة، ووجهه: أنّ اللّه تعالى أوجب الكفّارة بالعود وقبل التّماسّ، وذلك بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} وهو صريح في أنّ العود غير التّماسّ الّذي هو الوطء، وذلك إنّما هو العزم عليه، فيكون هو السّبب في وجوب الكفّارة، ولأنّ الزّوج قصد تحريم الزّوجة بالظّهار، فالعزم على وطئها عود فيما قصده. وقال بعض الحنفيّة، والشّافعيّة في أحد الأوجه، رجّحه الشّربينيّ الخطيب، وهو ما رجّحه ابن قدامة في مذهب الحنابلة: سبب وجوب الكفّارة هو الظّهار والعود معاً، ووجهه: أنّ اللّه تعالى أوجب الكفّارة بأمرين: ظهار وعود، وذلك في قوله عزّ وجلّ: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فلا تثبت الكفّارة بأحدهما دون الآخر.
26 - كفّارة الظّهار تثبت في ذمّة المظاهر حتّى يؤدّيها فإن مات قبل أن يؤدّيها سقطت عند الحنفيّة والمالكيّة إلاّ إذا أوصى بها فتخرج من ثلث التّركة عندهما. وزاد المالكيّة أنّ المظاهر إن أشهد في صحّته أنّها بذمّته فإنّها تخرج من التّركة، سواء أوصى بإخراجها أم لم يوص، وهذا إن لم يطأ، فإن وطئ فلا تسقط بالموت عند جميع الفقهاء. وقال الشّافعيّة والحنابلة: إنّ كفّارة الظّهار لا تسقط بالموت، بل يؤدّيها الوارث عن الميّت من التّركة.
27 - يشترط لإجزاء الكفّارة عن الظّهار أمران: الأوّل: أن يكون الإتيان بالكفّارة بعد تحقّق سبب وجوبها، لأنّ الحكم إذا كان له سبب فلا يجوز أن يتقدّم على سببه، وتأسيساً على هذا: لو أطعم رجل ستّين مسكيناً، وقال: هذا الإطعام عن ظهاري إن ظاهرت، ثمّ ظاهر من امرأته لم يجزئه عن ظهاره، لأنّه قدّم الكفّارة على سبب وجوبها، والحكم لا يجوز تقديمه على سبب وجوبه، كما لو كفّر عن اليمين قبل الحلف، أو كفّر عن القتل قبل الإقدام عليه. وإذا قال رجل لامرأته: إن دخلت دار فلان فأنت عليّ كظهر أمّي، لم يجز له التّكفير قبل أن تدخل زوجته تلك الدّار، لأنّ الظّهار معلّق على شرط وهو دخول الدّار، والمعلّق على شرط لا يوجد قبل وجود ذلك الشّرط. الثّاني: النّيّة: وذلك بأن يقصد الإعتاق أو الصّيام أو الإطعام عن الكفّارة الّتي عليه، وأن يكون هذا القصد مقارناً لفعل أيّ نوع منها، أو سابقاً على فعله بزمن يسير، وذلك لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: » إنّما الأعمال بالنّيّات «. ولأنّ كلّ نوع من الأنواع الواجبة في الكفّارة يحتمل أن يكون الإتيان به للتّكفير، ويحتمل أن يكون لغيره، فلا يتعيّن التّكفير إلاّ بالنّيّة، وعلى هذا لو أعتق المظاهر أو صام أو أطعم بدون نيّة، ثمّ نوى أن يكون العتق أو الصّوم أو الإطعام عن الكفّارة الّتي عليه فلا يجزئه، وكذلك لو نوى الصّيام ولم يقصد أنّه عن كفّارة الظّهار الّتي عليه لم يجزه عن الصّيام الواجب في الكفّارة، لأنّ الوقت الّذي صام فيه يصلح للصّيام عن الكفّارة وعن غيرها، مثل النّذر المطلق وقضاء رمضان، فلا يتعيّن الصّوم للكفّارة إلاّ بالنّيّة.
28 - خصال كفّارة الظّهار ثلاثة، وهي واجبة باتّفاق الفقهاء على التّرتيب الآتي: أ - الإعتاق. ب - الصّيام. ج - الإطعام. والأصل في ذلك قول اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}. ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأوس بن الصّامت حين ظاهر من امرأته: » يعتق رقبةً، قيل له: لا يجد قال: يصوم «. وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح: (كفّارة).
29 - ينتهي الظّهار بعد انعقاده موجباً لحكمه بواحد من الأمور الآتية: أ - الكفّارة. ب - الموت. ج - مضيّ المدّة. أ - انتهاء الظّهار بالكفّارة: 30 - إذا ظاهر الرّجل من زوجته، وتحقّق ركن الظّهار، وتوافرت شروطه ترتّب عليه تحريم المرأة على زوجها، ولا ينتهي هذا التّحريم إلاّ بالكفّارة متى كان الظّهار مطلقاً عن التّقييد بزمن معيّن، وذلك لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمن وطئ زوجته الّتي ظاهر منها قبل أن يكفّر: » لا تقربها حتّى تفعل ما أمرك اللّه عزّ وجلّ «، إذ نهاه عن العود إلى وطئها، وجعل لهذا النّهي غايةً هي التّكفير، فدلّ هذا على أنّ الظّهار لا ينتهي حكمه إلاّ بالكفّارة، ولهذا قال الفقهاء: إنّ الرّجل إذا ظاهر من زوجته وفارقها بطلاق بائن بينونةً صغرى، ثمّ عادت إليه بعقد جديد لا يحلّ له وطؤها حتّى يكفّر، سواء رجعت إليه بعد زوج آخر أو قبله، وكذلك إذا طلّقها ثلاثاً وتزوّجت برجل آخر، ثمّ عادت إليه، لا يحلّ له وطؤها قبل أن يكفّر، وعلّل ذلك الكاسانيّ في البدائع بأنّ الظّهار قد انعقد موجباً لحكمه وهو الحرمة والأصل أنّ التّصرّف الشّرعيّ إذا انعقد مفيداً لحكمه فإنّه يبقى متى كان في بقائه فائدة محتملة، واحتمال عودة المرأة بعد الطّلاق إلى زوجها الأوّل قائم، فيبقى الظّهار، وإذا بقي فإنّه يبقى على ما انعقد عليه، وهو ثبوت الحرمة الّتي ترتفع بالكفّارة. ب - انتهاء الظّهار بالموت: 31 - وينتهي الظّهار أيضاً بموت الزّوجين أو أحدهما، فلو ظاهر الرّجل من زوجته ثمّ مات أو ماتت زوجته انتهى الظّهار وانتهى حكمه باتّفاق الفقهاء جميعاً، لأنّ موجب الظّهار الحرمة، وهي متعلّقة بالرّجل والمرأة، فالرّجل يحرم عليه الاستمتاع بالمرأة الّتي ظاهر منها، والمرأة عليها ألاّ تمكّنه من نفسها حتّى يكفّر، ولا يتصوّر بقاء الحكم بدون من تعلّق به. هذا بالنّسبة للظّهار وأثر الموت فيه، أمّا بالنّسبة للكفّارة والمطالبة بها بعد الموت، فقد سبق بيانه ف 26. ج - مضيّ المدّة: 32 - وينحلّ الظّهار المؤقّت بمضيّ مدّته عند جمهور الفقهاء، وقد سبق بيان التّوقيت والتّأبيد في الظّهار في فقرة (6).
انظر: الصّلوات الخمس المفروضة.
انظر: أسرة.
انظر: عين.
|